سوريا بعد الأسد- زخم إقليمي ودولي نحو مستقبل جديد

المؤلف: عمر كوش09.26.2025
سوريا بعد الأسد- زخم إقليمي ودولي نحو مستقبل جديد

شهدت الأيام القليلة المنصرمة تصاعدًا ملحوظًا في الحراك السياسي الإقليمي والدولي بشأن الوضع في سوريا، وذلك عقب مغادرة الرئيس بشار الأسد البلاد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، وانهيار النظام الحاكم. وقد توافدت وفود دولية عديدة إلى دمشق بهدف بناء علاقات متينة مع الإدارة الجديدة للبلاد، واستكشاف مختلف القضايا المتعلقة بهيكل الحكم وتركيبته، والعلاقات مع دول الجوار، بالإضافة إلى علاقاتها مع دول العالم أجمع، وكيفية تحقيق الأمن والاستقرار المنشود، وغير ذلك من الأمور الجوهرية.

الموقف التركي

تعتبر تركيا من أوائل الدول التي بادرت بالتواصل المباشر مع السلطات السورية الجديدة، حيث أرسلت وفدًا رفيع المستوى إلى العاصمة دمشق، ضم وزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن. وقد اجتمع الوفد بالقائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، الذي اصطحب كالن في سيارته لزيارة الجامع الأموي ذي الأهمية التاريخية.

ويذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قد تعهد في سبتمبر/أيلول من عام 2012 بالصلاة في هذا الجامع العريق، وقراءة سورة الفاتحة ترحمًا على روح القائد صلاح الدين الأيوبي. واليوم، يمكن القول بأن الظروف أصبحت مواتية لتحقيق هذا الوعد في المستقبل القريب.

من المعلوم أن الوضع في سوريا يمثل قضية ذات أهمية قصوى للطبقة السياسية في تركيا، وذلك نظرًا للحدود المشتركة بين البلدين، والتي تمتد لحوالي 950 كيلومترًا، بالإضافة إلى الروابط التاريخية والثقافية الوثيقة التي تجمع الشعبين الجارين. كما يضاف إلى ذلك القلق التركي المتزايد حيال إمكانية تشكيل كيان انفصالي في المناطق الواقعة شرقي نهر الفرات، والتي تخضع لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ومخرجاته المدنية المتمثلة في مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، والعسكرية المتمثلة في وحدات حماية الشعب الكردية، التي تشكل جوهر قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وتعتبر تركيا هذه المكونات امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، الذي تخوض ضده حربًا شرسة منذ ثمانينيات القرن الماضي.

تتركز مواقف تركيا وأولوياتها في علاقتها مع السلطات السورية الجديدة على عدة نقاط، أهمها مطالبة أنقرة بتشكيل حكومة وطنية جامعة، لا تستبعد أيًا من الهيئات السياسية المقربة منها، أو فصائل ما يسمى "الجيش الوطني" المدعوم من قبلها. كما تشدد تركيا على ضرورة مكافحة الإرهاب بكل أشكاله، وعدم السماح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته بالاستمرار في السيطرة على مناطق في شرقي الفرات. بالإضافة إلى ذلك، تعرب أنقرة عن استعدادها الكامل للمساهمة الفعالة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب في سوريا خلال السنوات العجاف الماضية.

وقد أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على التزام بلاده بمساعدة الشعب السوري في تحقيق الاستقرار المنشود، مشيرًا إلى أن تركيا تتطلع بصدق وإخلاص إلى بناء سوريا جديدة خالية من الإرهاب، يعيش فيها أفراد جميع الأديان والمذاهب والأعراق بسلام ووئام جنبًا إلى جنب.

الحراك الإقليمي والدولي

سارعت لجنة الاتصال الوزارية العربية، التي تضم في عضويتها كلًا من الأردن، والسعودية، والعراق، ولبنان، ومصر، والأمين العام لجامعة الدول العربية، إلى عقد سلسلة من الاجتماعات الهامة في مدينة العقبة الأردنية في الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول الجاري. وقد حضر هذه الاجتماعات وزراء خارجية قطر، والإمارات، والبحرين، وتركيا، بالإضافة إلى ممثلين عن ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون.

وقد أصدرت اللجنة في ختام اجتماعاتها بيانًا أكدت فيه على الحاجة الماسة إلى انتقال سياسي جامع وموثوق بقيادة سورية خالصة، وبقرار من السوريين أنفسهم، وبما يتماشى مع المبادئ الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2254.

وللأسف، فإن ما ورد في بيان العقبة يميل إلى فرض شروط مسبقة على السلطة السورية الجديدة، مع إبداء بعض الشكوك الضمنية حيالها. وفي المقابل، فإن المطلوب من الدول العربية، على وجه الخصوص، هو الالتفات الجاد إلى المعاناة المريرة التي تكبدها الشعب السوري طوال ما يزيد على ثلاثة عشر عامًا من حكم نظام الأسد، والإسراع بفتح قنوات لإيصال المساعدات الإنسانية الضرورية إلى السوريين، ومساعدتهم في تحقيق انتقال سلس للسلطة، وإعادة بناء ما دمره النظام السابق، مع التأكيد على ضرورة محاسبة المسؤولين عن ارتكاب المجازر والجرائم بحق السوريين وتقديمهم للعدالة.

من جانبهم، ركز قادة الدول الغربية، منذ الأيام الأولى لرحيل بشار الأسد، على ضرورة إجراء عملية انتقالية سياسية شاملة، تمثل جميع مكونات المجتمع السوري، مع التأكيد على حماية الأقليات وضمان حقوق المرأة، ومكافحة الإرهاب بكل أشكاله.

وهناك إجماع واسع النطاق لدى غالبية ساسة الدول الغربية، وكذلك في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، على أن علاقات الغرب مع سوريا في مرحلة ما بعد الأسد ستتحدد وفقًا لمجموعة من العوامل المتشابكة.

وقد ساهم سقوط النظام السابق في إنهاء حقبة طويلة من الجمود، والتي ارتكزت على إضعاف النظام وعزله وفرض عقوبات قاسية عليه، بهدف إجباره على الانخراط في حل سياسي للأزمة. كما ألحق إسقاط النظام ضربة موجعة بإيران وحلفائها في المنطقة، مما أدى إلى تغيير ملموس في توازن القوى وقواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب الخارطة السياسية بما يتناسب مع تعزيز نفوذ الولايات المتحدة الأميركية وتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية في المنطقة.

ومع ذلك، فإن المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط لن تكون سهلة وميسرة، ولذلك لجأت الإدارة الأميركية إلى إجراء اتصالات مباشرة مع "هيئة تحرير الشام"، على الرغم من أنها ما تزال تصنفها كمنظمة إرهابية. ويعكس هذا التحرك حاجة الهيئة إلى الحصول على اعتراف دولي، يمنحها الشرعية اللازمة لحكم سوريا في المرحلة القادمة.

أما فيما يتعلق بالتحرك الأوروبي، فقد بادرت كل من فرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي بإرسال وفود رفيعة المستوى إلى دمشق، وتم رفع العلم الفرنسي على مبنى السفارة الفرنسية في دمشق للمرة الأولى منذ اثني عشر عامًا.

الضغوط والاشتراطات

ركز المسؤولون الغربيون في تصريحاتهم على مجموعة من المطالب، أو بالأحرى الشروط، التي تتمحور حول ضرورة إشراك جميع مكونات المجتمع السوري في مختلف مفاصل الحكم، وبما يضمن عدم استبعاد أي طرف. كما شددوا على أهمية احترام حقوق الأقليات، وضمان عدم تحول سوريا إلى مرتع للتنظيمات الإرهابية. وقد تم ربط الرفع التدريجي للعقوبات الغربية المفروضة على سوريا، وشطب اسم هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية، بمدى التقدم الفعلي في تحقيق هذه الشروط.

كما تم ربط ذلك أيضًا بمساهمة الدول الغربية في إعادة إعمار سوريا. ويعكس الحضور الأميركي اللافت والتواصل المباشر حرص الولايات المتحدة على عدم تفويت الفرصة السانحة، والتي تمكنها من حصد المكاسب والفوائد من التطورات الأخيرة في سوريا، ورسم تصور جديد لمستقبل علاقات الولايات المتحدة مع سوريا في مرحلة ما بعد النفوذ الروسي.

إلا أن مستقبل علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع سوريا يظل محفوفًا بالتحديات، وعلى رأسها علاقتها مع القوى المسيطرة على مناطق شرقي الفرات، والتي تتداخل مع عدم رغبتها في تسليم الملف السوري برمته إلى تركيا، وميلها إلى تخفيف حدة الاندفاعة التركية الساعية إلى تعزيز نفوذها في سوريا.

ولعل مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا الجديدة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى صدق النوايا الأميركية في الحفاظ على وحدة التراب السوري وسيادة الدولة الجديدة، خاصة وأن الإدارات الأميركية السابقة لم تولِ هذا الأمر أي اهتمام يذكر، بل ساهمت بشكل أو بآخر في تفتيت سوريا، وفي الحفاظ على حالة التقسيم الفعلي إلى مناطق نفوذ لقوى الأمر الواقع الداخلية المدعومة من قوى خارجية مختلفة.

تطلّع السوريين

يتطلع السوريون، بعد أن تخلصوا من كابوس نظام الأسد، إلى التخلص أيضًا من براثن قوى الوصاية الخارجية، لكي يتمكنوا من بناء جمهورية جديدة، لا يكونون فيها مجرد أرقام هامشية في المعادلات السياسية، ولا تتحكم في مصائرهم القوى الإقليمية والدولية التي لا تنظر إلا إلى حساباتها ومصالحها الخاصة.

ويتعين على السلطة الجديدة أن تدرك تمام الإدراك أنها تسير في حقول ألغام متشعبة، ولذلك يجب عليها توخي الحذر الشديد، والموازنة الدقيقة بين الاعتماد على الداخل من أجل تقوية نفسها بالاستناد إلى دعم شعبها، وبين التعامل مع اشتراطات الخارج ومطامع قواه المختلفة، وذلك من خلال تلبية كافة المطالب المتعلقة بإشراك جميع أطياف المجتمع السوري واحترام حقوق جميع المواطنين.

وتكمن المشكلة الحقيقية في أن الضغوط الغربية تطالب السلطات السورية الجديدة بتحقيق ما عجزت دول الغرب عن تحقيقه مع نظام الأسد طوال عقود طويلة، بالإضافة إلى أن الاشتراطات الغربية تخفي في طياتها التركيز على أمن إسرائيل، وتأمين مصالحها على حساب الأرض السورية والشعب السوري.

فضلًا عن ذلك، لم يتحدث أي من المسؤولين الغربيين عن المواطنة المتساوية ودولة المواطنة في سوريا، بل ركزوا بشكل لافت على الأقليات وحقوقها، والتعامل مع سوريا وكأنها دولة تتكون من أقليات عرقية ودينية، الأمر الذي يكشف عن عقلية استعمارية متأصلة لديهم، والتي تمتد جذورها إلى "المسألة الشرقية" التاريخية.

ويبدو أن المسؤولين الغربيين يتعامون عن تطلعات الشعب السوري حين يطرحون اشتراطاتهم، ولا يعيرون أي اهتمام لحالة سوريا المنهكة والمدمرة، وحاجتها الماسة إلى مد يد العون والمساعدة في بناء ما تهدم، وإلى بذل جهود مضنية من أجل ترميم النسيج الاجتماعي الداخلي المتهالك، وتوفير الأمن والخدمات الأساسية للمواطنين، والعمل الجاد على تطوير الاقتصاد.

ويدرك السوريون تمام الإدراك أنهم بحاجة إلى كسب المزيد من المؤيدين لبلادهم في العالم وفي منطقتهم، ولذلك فإن المطلوب من القادة الجدد ممارسة السياسة بحكمة وروية، وإفساح المجال أمام جميع القوى الحية في المجتمع السوري من أجل بناء الدولة، وفتح الفضاء العام أمامهم للمناقشة وتبادل الآراء بشأن أوضاعهم، بهدف التعاون لإيجاد الحلول المناسبة لمختلف التحديات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة